الجمعة، 3 يوليو 2015

كدت عنّي أختفي ||

   



    مع أوّل لقاء .. أبدو لهم  كقطعة البازل (puzzle)الأخيرة التي تكتمل بها اللّوحة، اعجابهم بي محدود بحدود القطعة التي تتناسب مع الشكل المفرغ . تناسق الحواف وتماسك القطع هو مايستهوي أكبر فئة من لاعبي البازل . تقريبا لا أحد منهم يهتم لجمال اللّوحة من عدمه. وكأي لاعب مبتدئ أول ما تقع عليه عيناه هو القطع الجانبية مصقولة الطرف،  فتسرع أنامله لإلتقاطها ثم دون أدنى تفكير يبدأ بتحديد الشكل الخارجي للّوحة. هكذا هم المبتدؤون في التّعرّف عليّ. لايتمهّلون. يُسارعون الى تحديد ملامح شخصيتي مع التركيز المفرط على جوانبي المصقولة والتي أظهرها بكل عفوية.
ما إن ينتهوا من تحديد الإطار الخارجي بكل اندفاع حتى تبدأ الرغبة في مواصلة تركيب باقي القطع في التراجع. مادامت اللّعبة سهلة فهي جيدة وممتعة أيضا، لكن حين تتشعب وتتداخل منحنياتها  فإنها تصبح إمّا مجرد تحدٍّ  وهو ما يفعله أغلبهم فيجرّبون القطعة الواحدة عشرات المرات حتى أملّ أنا السؤال المطروح عشرات المرات وأجيب بما يحلو لهم هم، وتستقر القطعة أين أرادوا هم وإن كانت لموضع غير موضعها. أو يتابعوا وضع القطع بكل ملل .

أصعب لوحات البازل هي تلك التي تكون الألوان المعتمَدة فيها متقاربة أوذات  تدرجات ضوئية للون واحد، والقطعة المحظوظة هي التي تكون بلون واحد. أنا لست بلون واحد لذلك أنا أبعد الناس عن الحظ . فإما أن أصطبغ بلون واحد يروقهم فأخفي بذلك تدرّجات شخصيتي، وانحناءات رغبتي، وتداخل أفكاري. عليَّ أن أخفي كل شيء ! جربت ذلك عدة مرات محاولة حشر نفسي في قالب ضيّق صنعوه بمقاييس أنانيّة تضطرّني للإنحناء والإختفاء. فأحرص على  أن لا أحدّثهم عن الأفلام الإيرانية والأفغانية التي تأخذ أكبر حيز من ذاكرة حاسوبي فإن كنت قادرة على اقناعهم أن الدّراما الايرانية لا فسق ولا تبّرج ولا سخافة فيها فإني أعجز من أن أناقش فتواهم بأني سأحشر مع الشيعة مادمت معجبة بما يصنعون  . وقد أتوتر حدّ الهلع إن كان السؤال عن المقرئين وأيّهم أستحسن. وعن التلاوات وأيها أتلذّذ، فإن ذكرت الشيخ محمود الشحات أتهموني بالتشيع وان أبديت اعجابي بأبي العينين شعيشع رموني بالتصوّف. فلا داعي اذا بأن يعلموا أني أدمن الإستماع إلى التلاوة على مقام النهاوند، فالحرمة قائمة عندهم وان كان الصحابة يُحبّرون القرآن تحبيرا.
الأفضل أن أنسحب من حديث بدا فيه ذكر عناوين كتب أظن أنّي لم أطلع عليها ولن أطلع عليها مادام هناك روايات لم أقراها بعد ودواوين لم أقم بتحميلها بعد. وأنا حتى الآن لا أعلم كيف يجهلون كتب الرافعي ومصطفى محمود وعلي الطنطاوي ومحمود شاكر. ويتفاخرون بالمستدركات والشروح ونصوص الفتاوى ومجلدات السّير. فأكتم عنهم ما أقرأ واجتهد في تغيير الموضوع وهكذا أخفي عنهم إختلافي. وبإخفاء وراء إخفاء كدت عنّي أختفي.

أحيانا تحمل قطعة واحدة من لعبة البازل عدة ألوان، والمتمرّس في اللعبة لا يمارس عليها غباء التجربة . فقط يضعها في المنتصف فهو يعلم جيدا أنها روح اللوحة. لكنه يقلب لها ظهر المجنّ ويجعلها على الجهة الثانية حتى لا تشدّ انتباهه أكثر.. حتى لا تخرج به من نمطية الشكل الى جمال اللون..  حتى لا يمضي الساعات وهو يتمعن فيها متخيّلا الشكل النهائي للوحة .
بكل يقين يعلم انها ستكون القطعة الأخيرة التي بها سينهي شغفه،  لكنه وبكل خوف يطمسها فهي الأشد فتنة عليه.

الآن أصبح من السّهل أن أختار أنا الصّورة التي أرغب في تركيبها : يمكنني بكل بساطة اختيار الحجم و عدد القطع، فالبازل على النات متوفر ايضا. كما بامكاني  تحميلها وطباعتها ، فإن كان الأمر بحضورهم لا أظنني سأتجرأ على إختيار صور المولوية . وهكذا أواصل في إخفاء ذاتي عنهم . وإن كنت قادرة على إخفاء صورة فهل لي أن أخفي عنهم موشحات فرقة ابن عربي وبشار زرقان . والى متى سأخفي ديوان ابن الفارض وابن عربي  وابن الصباغ؟

ومع آخر قطعة بازل تكون اللعبة قد انتهت. وبحركة سريعة يقومون ببعثرة القطع. بذات السّرعة التي يلتفتون بها عني فرغبتهم كانت محض تحدٍّ لا أكثر .

..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق